الاثنين، 9 أبريل 2012

هل السلفيون المتصدرون عضد الهيمنة الأمريكية

دور السلفية في ترسيخ المشروع الأمريكي


كنت ولازلت وسأظل أرى ان العودة الى منهج القرون الفاضلة في فهم الدين والحياة والعلاقة بالعالم هو المخرج من هذه الأزمات المدلهمة التي تطوق حياتنا. أعني منهج ذلك الجيل الفريد: النبي –صلى الله عليه وسلم- وفقهاء أصحابه وزهاد التابعين من أهل العلم والعبودية والعمل لهذا الدين.
فأنا في هذه المقالة لا أتحدث عن منهج ذلك الجيل الفريد من السلف وأهل القرون الفاضلة –عليهم سحائب المغفرة- وانما أتحدث عن شريحة معاصرة, اصبحت معروفة بملامحها المشتركة، ونمط تفكيرها، ومواقفها ذات اللون البارز، ويسمون أنفسهم "السلفيين"، وينتسبون في ذلك كله الى "السلف".
وبدهي أن نقد "السلفية المعاصرة" ليس نقداً لـ "السلف" ذاتهم برغم انتساب السلفيين الى السلف، كما أن نقد المسلمين المعاصرين ليس نقداً للاسلام ذاته برغم انتسابهم اليه، وكما أن نقد الحنابلة ليس نقداً للامام أحمد ذاته برغم انتسابهم اليه, وكما أن نقد كتاب من كتب التفسير ليس نقداً للقرآن ذاته برغم اعلانه كونه مجرد تفسير له.
هذه المسافة بين "المعطى" و "تفسيره" المنتسب اليه هي أحد أصول علم الملل والفرق والمذاهب الفكرية، فأتمنى أن لا أكون بحاجة الى اعادتها وتأكيدها مرة أخرى.
أؤكد أنني بصدد ايضاح العلاقة الوطيدة بين اهتمامات وممارسات (السلفية المعاصرة) وبين المناخ المفضل لتعزيز المصالح الأمريكية.
بما يعني أن هذه الفرقة "السلفية المعاصرة" هي أحد أهم عوامل تكريس الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وانفراد البيت الأبيض بتسيير دفة الأمور، وتعميق مبررات الوجود الأمريكي، وتغييب "الرأي العام" عن مقاومة هذا الاستعمار شبه الصريح.
لايمكن بطبيعة الحال فهم هذه القضية الا من خلال استيعاب وتحليل السياسة الأمريكية المفضلة في "صناعة النفوذ" وغرس الهيمنة واحكام السيطرة في المناطق ذات الصلة بالمصالح الحيوية الأمريكية في العالم.
يعبر عن استراتيجية "صناعة النفوذ" بشكل تفصيلي واضح مهندسا السياسة الخارجية الأمريكية وهما العجوز المخضرم "هنري كيسنجر" (مستشار الرئيس نيكسون ووزير خارجيته فيما بعد) وزبغنيو بريجنسكي (مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي) ككتاب كيسنجر الضخم عن تاريخ الدبلوماسية، وكتاب القوة والمبادئ لبريجنسكي وغيرها.
وتتلخص هذه الاستراتيجية بشكل مركز في (تغذية النزاعات الخفيفة المحدودة والمحكومة استراتيجياً) بهدف الهيمنة وخلق مبررات التواجد الأمريكي في المناطق المستهدفة. وهذه النزاعات التي تكون تحت السيطرة يطلق عليها (Low intensity conflicts) أي الصراعات منخفضه الحدَّه، ولذلك يكرر كيسنجر فكرة "ادارة الأزمات وليس حلها". وهذه الفلسفة واصلت الادارات الأمريكية المتعاقبة تحريك خيوطها في المناطق المستهدفة.
ولذلك تجد أن الادارة الأمريكية تفضل دوما حماية استقرار النظم السياسية الفاسدة في العالم العربي، وجر القوى الفكرية والسياسية واستدراجها الى التطاحن حول القضايا الرمزية والشكلية والصغيرة بحيث تمتص الطاقة الاجتماعية دون المساس بمصالح اللاعبين الكبار. إنها سياسة اشغال القطط الصغيرة بالفتات حتى لاتفكر في الصعود للمائدة.
ولقد وفرت هذه السياسة (حماية استقرار الحلفاء واستنزاف الخصوم بالمعارك المحكومة) للبنتاجون ميزانيات هائلة فبدلاً من صرف الطاقة في كسر التفوق النسبي لكل خصم فان الادارة الأمريكية تتوجه الى فتح المجال لهذه الطاقات لكي تتطاحن ليدفع فاتورة حماية المصالح الأمريكية الخصوم ذاتهم.
بما يعني أن أفضل طقس يتناسب مع طبيعة الأخطبوط الأمريكي هو الطقس الذي تتصارع فيه القوى الثقافية حول القضايا الصغيرة مع تأكيد شرعية النظم السياسية الفاسدة في العالم العربي.
والواقع المر أن "السلفية المعاصرة" استطاعت أن تخلق هذا المناخ بكل جدارة. فلا يخفى على منصف صادق أن السلفيين في كل مكان يضخمون القضايا الرمزية ويقزمون القضايا الكبرى.
كم هو مؤلم أن يكون المناخ السلفي اليوم هو المناخ المفضل للأخطبوط الأمريكي.
 

ومن المهم عدم الخلط بين السلفية و "الحركات الوسيطة" وأقصد بها الحركات التي تقف في الوسط بين جبهات المثلث الاسلامي, فالمثلث الاسلامي اليوم يقف على زواياه ثلاثة جبهات:
(الحركيون, الجهاديون, السلفيون):

•فالجهاديون أولويتهم هي (المشروع العسكري) ولذلك فهم يقلقون الادارة الأمريكية نتيجة تعميقهم في الشباب نزعة الصدام والتمرد على الأمن واثارة الفوضى والاضطرابات.
•أما الحركيون فأولويتهم هي (اقامة الدولة الاسلامية) ولذلك فهم يقلقون الادارة الامريكية والنظم السياسية العربية الفاسدة نتيجة تعميقهم في الشباب الوعي السياسي ونزعة المعارضة المنظمة بعيدة المدى.
•أما السلفيون فأولويتهم هي (بيان زلات الكتاب، وتجنب القوى السياسية) ولذلك فلايمثلون أدنى تهديد للمصالح الأمريكية، بل بالعكس تصب جهودهم في مصلحة استنزاف القوى المناهضة للمصلحة الأمريكية.
وتقف على أضلاع هذا المثلث حركات وسيطة تجمع بين مكونات جبهتين، مثل (السلفية الجهادية) و (السلفية الحركية: مجلة البيان) وهذه الحركات الوسيطة خففت من انحراف السلفية المعاصرة بما اضافته من محاسن الجبهات الأخرى.

أما السلفية المعاصرة "المحضة" التي لاتعترف بأمرين: "المشروع الحركي" و "المشروع الجهادي" : فهي حركة خطيرة تجر الشباب الى الاشتغال بما لايؤثر على مصالح الاستعمار الأمريكي من حيث لاتعلم. حيث تحاول تخفيف الاهتمام بالقوى السياسية صاحبة الأمر والنهي والسيادة، وتحويل المعركة الى الصحافيين والمثقفين المعزولين أصلاً عن القرار السياسي والشعبية العامة. بل بلغ الحال ببعض السلفيين الى التبجح في المجالس بعلاقاتهم الخاصة مع الأمراء والولاة، وأصبحت نغمة مألوفة ان ترى الواحد منهم يقول (قال لي الأمير فلان كذا .. وقال الأمير فلان كذا ..) يقولها بكل استرخاء وكأن شيئاً لم يكن!
 

في بالي الآن عدد من الأسماء السلفية الرنانة التي صدَّعت أسماعنا بذلك في المجالس والندوات المغلقة -وبعضهم يكتب في الساحة السياسية بأسماء شبه معروفة- ولكن أخلاق الاسلام تأبى علي التصريح بما في المجالس. بل كثير منهم يعتذر صراحة في المجالس والندوات للنظم السياسية العربية الفاسدة بأنه ليس في امكانها أكثر مما صنعت أمام الامبراطورية الأمريكية.
 

كل مسلم يقرأ كتاب الله يستقر في روعه قطعاً أن "العقيدة الالهية" هي مصدر الالهام والتدفق والتغيير في هذا العالم. كل مسلم يقرأ سيرة النبي وتاريخ الخلفاء الراشدين يرى كيف وظفوا العقيدة في اقامة عزة الاسلام. لكن حين تأخذ جولة سريعة في الدروس السلفية المعاصرة في علم العقيدة تتفاجأ حين ترى الدروس تمضي ساعاتها الثمينة في "صراع الأشباح" التي لاوجود لها أساساً.
أكثر شخصية حاضرة في تلك الدروس السلفية هو الجهم ومذهب الجهمية. ولا والله مارأيت في حياتي كلها شخصاً جهمياً. بل لايعرف في تاريخ الاسلام مذهب له أنصاره وكتبه وتلاميذه باسم الجهمية. وانما هي مقالة تحكى بلاخطام عن شخصية غامضة ليس لها مؤلفات متداولة ولاتاريخ .. أما العالم الاسلامي اليوم فهو اما أشعري أو ماتريدي أو على مذهب أهل الحديث. وهكذا تمضي ساعات طالب العلم ويستهلك جهده ووقته وعمره -الذي لن تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عنه- في الرد على أشباح لاحقيقة لها ولاوجود …
بينما لو تقدم شاب مكلوم الى أحد هؤلاء السلفيين المتصدرين لدروس العقيدة بسؤال حول الفساد السياسي المعاصر وفتنة المسلمين بالاستعمار الأمريكي لتضايق من السؤال ووجه السائل الى الاهتمام بتأصيل العقيدة أولاً !

ومتى كانت معركة الأشباح جزءاً من نور النبوة؟!
بالله عليك أخي القارئ الكريم : هل يمثل الرد على الجهمية والمجسمة ونظائرهم تهديداً للمصالح الأمريكية؟! وهذا مايفسر لماذا استمرت أمريكا طوال السنوات الماضية في حماية ودعم آيديولوجية النظام السياسي الخليجي، وتمرير التمويلات الفلكية التي كان الخليج يضخها في طباعة كتب السلفيين المعاصرين في العقيدة ..!
 

وقد استمرت السلفية الرسمية غير حساسة بتاتاً تجاه المصالح الأمريكية ومشروع الاستعمار الأمريكي، وغير قادرة أصلاً على التقاط موجات الهيمنة وفهمها، برغم صلاح قصدها في كثير من الأحيان لكنه نقص الوعي الذي ضرب بجرانه في الأفهام ..
 

ولذلك أفتت المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية -بكامل حمولة زعامتها السلفية- بجواز الصلح مع اسرائيل وثار المسلمون في كل مكان على هذه الفتوى. ثم لما هدأت الأمور أعقبتها بفتواها الثانية في مشروعية ضخ ونشر القوات الأمريكية في المنطقة إبان أزمة الخليج. وثارت الحركة الاسلامية حينها على هذه الفتوى. ثم لما اندلعت أزمة لبنان وقف كثير من السلفيين في صف اسرائيل ضد المقاومة اللبنانية. أؤكد أن كثيراً من ذلك قد يتم بحسن نية لكنه ينطوي على كثير من غياب الوعي.
ولايخفى على أبسط متابع أن النظم السياسية الفاسدة في العالم العربي هي أحجار الشطرنج التي يحركها البيت البيض وفقاً لتبدلات مصالحه والمواقع الجديدة التي تفرضها احتياجاته. والفقه السلفي المعاصر –للأسف- يخدم كثيراً مصلحة هذه النظم السياسية الفاسدة، فجمهور السلفيين المعاصرين يقفون موقفاً سلبياً من مفاهيم الشورى والمشاركة السياسية وتوسيع القاعدة الشعبية لاتخاذ القرار، فأفكار السلفيين المعاصرين تدفع باتجاه حرمان الأمة من المشاركة في صياغة واقعها.
 

ولذا يلاحظ المتابع أن النظم السياسية الفاسدة في العالم العربي تقمع الجهاديين، وتترصد للحركيين وتحصي أنفاسهم، أما السلفيون فهم الفرقة الوحيدة التي تتمتع بالقسط الأكبر من مناصب كبار العلماء، وامامة الحرمين، ورئاسة الجمعيات الخيرية الرسمية، والقاء الدروس والدورات العلمية دون عرقلة ولاوساطات .. ونحو ذلك من هذه الامتيازات الفارهة.. بل ان كبار الكتاب السلفيين هاهنا في "الساحة السياسية" هم الوحيدون الذين لم تطالهم عين الرقابة ولازالوا في سعة من أمورهم لأنهم بكل بساطة يدعون مالله لله ومالقيصر لقيصر ..
وهكذا يتوتر الساسة من الحركيين والجهاديين ويقربون السلفيين .. ذلك أن الجهاديين يتمردون على الأمن، والحركيون يعمقون الوعي السياسي لدى الفرد، بينما السلفيون يغيبون وعي الشاب. فالمحصلة النهائية أن الفكر السلفي المعاصر يمنح النظم السياسية العربية مزيداً من الأوراق لتأكيد احتفاظها بالسلطة وانفرادها بها.
 

فبالله عليك أخي القارئ .. حين يؤدي الفكر السلفي الى استقرار النظم السياسية الفاسدة وانفرادها بالسلطة فهل يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية أم تعزيزاً لها ؟!
 

كنا مرة في أحد المجالس -أيام حريق الرئاسة الشهير- فذكر أحد السلفيين أنه ذهب أكثر من أربعين مرة الى المقام السامي يناصحه عن حادثة "الدمج".. فقال له أحد الحاضرين: وهل ناصحتهم لمواجهة الاستعمار الأمريكي للعراق؟ فقال بكل دهشة: لا .. !
 

هذا هو الفهم السلفي الصالح للأخطبوط الأمريكي .. يغرق في اجراء اداري ويدع اخوانه تحت رحمة المجنزرات الأمريكية ..!
 

يتحدث أحد الناشطين في الجمعيات الخيرية في العالم الاسلامي فيقول: تصادف أن تجد في كل عاصمة عدة جمعيات ذات مشارب اسلامية مختلفة فبعضها اخواني وبعضها تبليغي وبعضها تحريري وبعضها غير ذلك وبسبب الغربة والهم المشترك فان جسور التعاون والتعاضد تزداد متانة بمرور الوقت, فأي نقص في جمعية من الجمعيات تستعين فيه بالجمعية الأخرى .. حتى اذا حل بيننا فرع جديد لمؤسسة الحرمين السلفية بدأ حديثهم في تبديع الجمعيات الأخرى يزرع الشقاق والتناقض وتفجر العلاقات بشكل لاتتصوره فينقلب التعاون خصومات ومشاحنات كارثية !
 

بالله عليك أخي القارئ الكريم .. هذه الانشقاقات السلفية المستمرة التي تنخر في الداخل الاسلامي هل تمثل تهديداً للمصالح الأمريكية أم تعزيزاً لها؟!
 

يعنيني كثيراً أن أوضح للقارئ الكريم خيطاً رفيعاً يفصل بعض السلفيات المعاصرة كثيراً مايتم خلطها ببعضها، ألا وهو الفرق بين "الجامية" و"السلفية الحكومية". فهاتان الفرقتان المعاصرتان يجمعهما تغييب الوعي عن "المنكرات السياسية" ويفترقان في المعركة البديلة, فالجامية تجعل المعركة مع "زلات الدعاة" والسلفية الحكومية تجعل المعركة مع "زلات المثقفين"، ويشتركان كلاهما في التطبيل الخفي للنظم السياسية الفاسدة، وتعليق المنكرات على شماعة "الحاشية" و"البطانة" هربا من مواجهة الحقائق وتسمية الأشياء بأسمائها… باختصار شديد: الجامية والسلفية الحكومية تجعلان الصراع مع الطرف الأضعف، بينما يدعان القوي يسرح بالسلطة ويمرح، ولايشك رجل شم أخلاق الاسلام ماتنطوي عليه هذه الممارسة من نقص في المروءة والرجولة.
 

كلما رأيت سلفياً معاصراً مشغولاً بسلخ مثقف بائس لاقارئ له تذكرت قول سيد الخلق :
(إنما أهلك من كان قبلكم: أنهم إذا سرق فيهم "الشريف" تركوه, واذا سرق فيهم "الضعيف" اقاموا عليه الحد) ..
ولم يقل النبي ان الذي سرق هم البطانة والحاشية ! ولم يقل ان مواجهة الأشراف بسرقاتهم ربما يحدث فتنة! ولم يقل ذلك منهج التهييج!
هذا هو منهج محمد بن عبدالله .. لامداورة ولا التفاف .. ولاتسويغات متكلفة لأشراف البلاط .. بل هو الصدع بالحق في وجوه الأقوياء قبل الضعفاء ..
ألا ترى أنه حين يقتل المسلم في سبيل مدافعة كافر في مثل قوته فانه يستحق لقب الشهادة , لكنه حين يقتل في سبيل مواجهة سلطان يفوق قوته فانه يستحق لقب "سيد الشهداء" كما قال سيد الخلق: (سيد الشهداء حمزة ورجل قام الى امام جائر فأنكر عليه فقتله)

ختاماً .. لست هاهنا أدعو لفكر جهادي ولا حركي ولاسلفي معين، وانما أريد أن أوضح فقط أيهم الذي يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية وأيهم الذي يمثل أجواء مناسبة لها.

تنسب المقالة لإيراهيم السكران

هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله فيك، فلى اكثر من عام افكر فى السلفية فى مصر، من هذا المنظور، و لم اكن ادرى انها كذلك ايضا فى السعودية، و الحديث الاخير الذى ذكرته كان هو اللطمة الاولى لى كى استفيق من هذا المنهج المجافى لابسط قواعد التفكر فى النصوص التى مازات معين لا ينضب من قران وسنة... جزاكم الله خيرا ... و اعظم لك الجزاء

    ردحذف