السبت، 28 يناير 2012

حلول إسكانية غير مجدية

الإسكان .. يحتاج إدارة لا فتاوى!

الحقيقة أن الأمر الذي توصلت إليه بعد دراسة وتحليل المخارج الفقهية المقترحة لحل أزمة الإسكان أنها كلها للأسف لا تلاقي جوهر المشكلة، وإنما بكل اختصار مشكلة الإسكان تحتاج (كفاءة إدارية) و (قرار سياسي صارم) هذه هي الخلاصة بكل اختصار، وقد سبق أن شرحت وجهة نظري في هذا المفهوم في مقالة سابقة بعنوان (الإصلاح في السعودية ليس مسألة فقهية) وهي منشورة على الشبكة لمن كان يعنيه الأمر.

فإذا تأملت ملف الإسكان وجدته مكبل بسلاسل إذا تتبعت حلقاتها وصلت أخيراً إلى خلل إداري، وسأضرب لذلك بعض الأمثلة:
أول وأهم كارثة في ملف الإسكان هو المنح والإقطاعات غير العادلة، وقد شرحت وجهة نظري حول هذه المشكلة الأليمة في فقرة مطولة بعنوان (العدل في الإقطاع) وهي منشورة على الشبكة لمن كان معنياً بالموضوع.
ومن المشكلات تحول قطاع العقار إلى بورصة مضاربة بسبب تخلف الفرص الاستثمارية، حتى أن عدداً من شركات التطوير العقاري هربت إلى المضاربة وغيرت خططها التطويرية لما صارت المضاربة أكثر جدوى لها، فباعت بعض أراضيها، وذهبت تبحث عن أراضٍ أخرى بعدما استغرق العمل في الأرض الأولى سنوات.
وقد أصبح جزء كبير من التطوير العقاري مرتبط بالأفراد، وهم المجموعات الصغيرة التي تعمل بنظام شركات المحاصة غير المسجلة.
كما أن الجسر الذي يوصل الأفراد إلى المساكن وهي شركات التطوير العقاري لم تلاقِ الدعم القانوني والإداري الكافي، فتعقيد وتطويل الإجراءات البيروقراطية ينتج كلفة إضافية باهضة يتحملها المستهلك النهائي.
كما أن محدودية قنوات تمويل شركات التطوير، وتحول كثير من البنوك من تمويل شركات التطوير إلى تمويل الأفراد لتوزيع المخاطر، أدى لضعف أداء هذه الشركات.
كما أن غياب الأرضية المعلوماتية الدقيقة، حتى أننا لا نعرف بالضبط حجم الأراضي البيضاء الخارجة عن ملكية المرافق والأفراد.
وتتعزز المشكلة المعلوماتية بالغياب الكلي لنظم التوثيق العقاري (الشخصي والعيني كلاهما) واعتماد الأمور على مسابقة الإثبات بأية قصاصات قديمة! مع ملاحظة أن نظام التسجيل العيني للعقار صدر في 1423ه ولكنه لا يزال رقماً من أرقام المراسيم لا غير، ولا تزال الملكيات تثبت عندنا بالطرق البدائية.
إضافة إلى أنه في هذه البيئة وظروفها ومعطياتها فقد تكون فكرة الرهون العقارية التي يراد لها أن تكون وسيلة تمويل للتطوير، قد تكون -أيضاً- وسيلة تمويل للمضاربة، فتتضاعف المشكلة!
كما أن استمرار مهيجات الهجرة السنوية إلى المدن الكبرى -الرياض خصوصاً- سيجعل الطلب يتزايد ولن تنحل المشكلة بأي كمية عرض صغيرة.
كم كنت مندهشاً وأنا أرى تصريحات رسمية لجهات حكومية مختصة أننا لم نجد أراضٍ لنقيم مشروعات سكنية! وهل هذه وظيفتك؟! وهل يمكن لهذه المؤسسات الحكومية البيروقراطية أن تدير مثل هذه المشروعات أصلاً؟ لماذا لا يتم خلق سوق للتطوير العقاري وتعزيزه ودعمه قانونياً وتمويلياً؟! بهذه الصورة ستنشأ الوحدات التي تلبي الطلب، وستنخفض أسعار العقار قطعاً.

كل الذي أخشاه في هذا الملف أن يتم امتصاص حماس الناس لحلول غير مجدية كما يرى بعض المختصين، كالرسوم أو التسعير أو منع الاحتكار، بينما السؤال الإسكاني أعمق وأعقد بكثير بكثير من هذه التصورات.

في عالم اليوم، وفي التجارب التنموية المعاصرة، نجد نماذج كثيرة لمشكلات الإسكان، لكننا لم نلاحظ حلها عن طريق الوسائل (الرسوم، التسعير، منع الاحتكار) وإنما لاحظنا وسائل مختلفة قانونية وتمويلية ومشروعات الخ، فهل مشكلاتنا التنموية استثناء؟! ولماذا تعالج الدول المعاصرة مشكلاتها بالإدارة المبدعة ونحلها نحن بالفتاوى؟!

مشكلة الإسكان والعقار لا يصح بتاتاً أن تعلق على (فتوى)، وقد رأيت من مبالغات البعض في تعليق الملف بفتوى، وأن الخطاب الشرعي لو تبنى الفتوى الفلانية لانحلت الأزمة، ونحو هذه الأفكار الهوائية الساذجة، وكأن فتوى ستحل تعقيدات أزمة الإسكان، حسناً يا أخي الكريم، هذا ابن تيمية واللجنة الدائمة برئاسة ابن باز وابن عثيمين تضمنت فتاواهم مشروعية التسعير ومنع الاحتكار ووجوب الزكاة على العقارات التجارية كل سنة، ومع ذلك لم تنحل الأزمة؟!

ومن المهم التنبه إلى أننا لو أخذنا بأشد الأقوال الفقهية على تجار العقار في هذه المسائل (التسعير والرسوم ومنع الاحتكار) فبكل بساطة سيأخذون هم بالأقوال الفقهية الأخرى، وسيجدون من يفتيهم، ولن تنحل الأزمة! وكمثال على ذذلك: افترض أنهم أخذوا بالقول الفقهي الذي يحصر الاحتكار المحرم في الأقوات ويخرج العقار منها، فماذا سنصنع؟! وهي مسألة اجتهادية.

تأمل معي هذا المثال: تلاحظ أن شريحة عامة الناس، وهم أكثر احتراماً للفتوى من رجال الأعمال، ولدينا سجلات من فتاوى تحريم التدخين والمعازف وحلق اللحى  والأفلام والدش الخ ومع ذلك كله لا زال الكثيرون يمارسونها، هل هذا يعني أن الفتوى لا قيمة لها؟ لا، طبعاً، ولكن يجب إدارك حدود الإمكانيات الاجتماعية للفتوى بشكل عقلاني وموضوعي، فإذا أدركنا بالضبط إمكانيات الفتوى اجتماعياً علمنا جيداً سذاجة الرأي الذي يربط "أزمة الإسكان" بوجود فتوى، هي موجودة أصلاً، وموجود نقيضها، ولن يختفيا كلاهما قطعاً.

كما أنني أرسل رسالةً لإخواني من المتخصصين في الفقه الإسلامي، أن لا يندفعوا في تقرير أحكام شرعية تحتاج لتقرير أهل الخبرة، فأهل الخبرة هم المرجع في ذلك، فيقرر طالب العلم القواعد الشرعية، وأما تطبيقها على مسائل التنمية فيجب أن يشترك فيها الخبراء، وفي هذا السلوك حفظ للشريعة وصيانة من ابتذالها في تطبيق القواعد على الوقائع الاجتهادية، التي قد يتبين خطؤها.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.

إبراهيم السكران

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق