الثلاثاء، 14 فبراير 2012

هيئة الفساد تتعامل مع البعض وليس الكل

يا أيها الفساد ... حدد هويتك ؟
حينما تجلس مستمعا في المجالس الخاصة أو العامة يتنابك شعورٌ بأن هذا المجلس ملائكي فوق البشر ... فالكل يتحدث عن الفساد المنتشر كل حسب اهتماماته  ... 
فالتاجر يفصل لك ألوان الفساد في وزارة التجارة والعمل ،  والقاضي يؤكد لك انتشار المحسوبية في وزارة العدل فيما يتعلق بالترقيات والنقل وغيره ، والموظف الحكومي يشتكي ظلم مديره وبطشه و عدم الانصاف والعدالة بين موظفي الإدارة الواحدة ،  فإذا فتحت المجال للمحامين رأيت عجبا من عِظَم استيائهم من نظام القضاء والقضاة والقصص التي يَرَوْنَهَا عن تسلط بعض القضاة ، فإذا رجعت لبيتك أتاك أبناؤك يشتكون من تسلط بعض المدرسين وإذا جلست تستمع للمدرسين وهمومهم ينتابك شعور بالرأفة تجاههم وشعور مماثل بالغضب تجاه وزير التربية والتعليم ووزارته.
الحاكم يحارب الفساد وينادي بالإصلاح ، الوزراء يحاربون الفساد وينادون بالإصلاح ،  العلماء ... الأدباء ... الدعاة ... وكلاء الوزرات  ...  التجار ...  القضاة ... المحامون ...  المهندسون ...  الأطباء ... الإعلاميون  ...  موظفو الحكومة ... موظفو القطاع الخاص ... السعوديون ... المقيمون  .... السجناء ... الطلقاء ... الكل يتحدث عن الفساد ... والكل يتبرم من الفساد في الوقت ذاته ، و الكل يدعي الإصلاح ... والكل يدعي محاربة الفساد في ذات الوقت ...  فيا ترى فما هو مكمن الخلل؟
في تقديري أن ذلك يرجع إلى خليط من الاسباب والدوافع وكلها ناشئه من الإختلاف في تعريف الفساد بين أفراد وشرائح المجتمع ؟  والتفريق بين ما يدخل في تعريف الفساد وما لا يدخل فيه ، لذا فإنه من الملاحظ أنك ترى تباينا كبيرا في فهم معنى الفساد وشرح ماهيته فعلى سبيل المثال :
‌أ-     يرى بعض المتنفذين أن اقتطاعهم من الأموال العامة لا يعتبر من الفساد لأنهم يعتبرون أن هذه الأموال ملك لهم في الأساس بينما يرى غالب المواطنين أنه لا يحق لأي شخص كائناً من كان التصرف في الأموال العامة إلا وفقا للأنظمة وفي حدود السياسة الشرعية التي توازن بين مصلحة المواطن والمسؤول .
‌ب-تسري لدى بعض كبار المتنفذين في الدولة ثقافة مفادها أن كثيرا من الأنظمة التي تم إنشاؤها لا ترتبط بهم من الناحية التطبيقية فهي من المواطن وإلى المواطن ولا تسري بتطبيقها على ذوي النفوذ بينما يؤمن غالب المواطنين بأن هذه الأنظمة يجب أن تسري وتطبق على الجميع كائناً من كان وبالتالي فإن مخالفة هذه الأنظمة تعتبر من الفساد لدى البعض ولا تعتبر فسادا لدى البعض الآخر .
‌ج-  في ظل إنتشار ممارسات الغش والخداع  وغياب الأمانة لدى كثيرين يرى بعض المواطنين أن كل ما أخذ بالغش والخداع والسرقة يجوز أن يسترد بنفس الأسلوب ولا يعد هذا فساداً نظرا لأن من متطلبات العيش في هذه البيئة أن تساير ثقافتها لأجل أن تعيش وتطعم أولادك وهو من باب الضرورة ، بينما يعارض آخرون بأنه لا يجوز سلب الحقوق بحجة أنها مسلوبة أصلاً من آخرين أو بالإستشهاد بالقول المأثور (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ) فهذا نوع من الفساد وهو يساهم في انتشار ثقافة الغاب.
‌د-    يعتقد بعض أفراد المجتمع أن لديه بعض الخصائص العنصرية (القبلية) التي تميزه عن غيره ويستحق مقابلها أن يمنح أموالا أو مناصب دون غيره.
‌ه-  اعتقاد البعض صحة وسلامة مبدأ السلطة المطلقة حيث جميع الأنظمة تخضع لسلطة واحدة في الإصدار والتنفيذ والتعديل والتعطيل وهذا لا يعد فساداً إدارياً في حين يرى آخرون بأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
‌و-    يرى البعض أن السكوت عن الفساد بل وتمريره  والتورية عنه هو من قبيل التقية المباحة والمداراة الحكيمة ولا يعد فساداً وخصوصا إذا كان يترتب على فضح هذا الفساد فوات مكاسب محققة أو وقوع أضرار ؛ في حين يرى آخرون أن هذا هو أصل الفساد وسبب إنتشاره وهو لا يقل جرماً عن الفساد ذاته.
‌ز-    يعتقد بعض أفراد المجتمع أن بعض الأنظمة ذات بُعد نَفْعِي لفئة معينة دون غيرها ؛ لذا فهم يرون أن مخالفة هذه الأنظمة والإلتفاف حولها لا يُعد فساداً بل هو من قبيل دفع الظلم ، في حين يرى آخرون أن جميع الأنظمة وضعت للنفع العام ولا يوجد ما يبرر مخالفتها حيث يعتبر من الفساد من يقوم بمخالفة أي نظام صادر ونافذ التطبيق. 
وبناء على ما سبق فإن مبررات ودوافع الفساد النظرية من الناحية النظرية يمكن تلخيصها فيما يلي:
1-  إعتقاد البعض أن الأموال العامة - في الأصل-  مملوكة للبعض وليس للكل وهذا يعطي حق التصرف المطلق فيها لهؤلاء وبالتالي أي تصرف عليها لا يُعدُ فساداً.
2-  إعتقاد البعض أن الأنظمة تكون محلاً  للتطبيق والإحترام بين المواطنين فقط دون كبار المتنفذين في الدولة حيث يخضع هؤلاء لأنظمة خاصة وبالتالي لا يعتبر مخالفة هؤلاء للأنظمة العامة من قبيل الفساد بخلاف غيرهم.
3-  إعتقاد البعض أننا نعيش في زمن الإضطرار والذي تحل فيه أكل الميتة مؤقتا لحين رجوع المياه إلى مجاريها لذا فإن الممارسات في هذا الزمن تخصع لمعايير خاصة وهذه تنطبق على الطبقة المستفيدة من أصحاب الجاه والنفوذ ومن دونهم.
4-  اعتقاد البعض أن لديه بعض الخصائص العنصرية (القبلية) التي تميزه عن غيره ويستحق مقابلها أن يمنح أموالا أو مناصب دون غيره.
5-  اعتقاد البعض صحة وسلامة مبدأ السلطة المطلقة ؛ حيث من المقبول لدى هؤلاء أن تكون جميع الأنظمة والممارسات خاضعة في أي لحظة للتعديل أو التعطيل أو الإنفاذ ... الخ وذلك حسب توجه السلطة المطلقة.
6-  اعتقاد البعض بوجوب الطاعة المطلقة ؛ وبمشروعية ممارسة التقية عند الوقوف على الفساد دون حدود أو ضوابط وهذا يُعد من الحكمة والمداراة.
7-  اعتقاد البعض أن بعض الأنظمة ذات بُعد مصلحي نفعي لفئة معينة لذا فهم يعُدون مخالفة هذه الأنظمة ليست فساداً لأنها لم تصدر بصورة عادلة ومتوازنة لخدمة جميع فئات المجتمع.
وعليه فإنه يمكن القول بأن غالبية أنواع الفساد لدى شرائح مجتمعنا المختلفة تستند على أحد المبررات السابقة الذكر ولعلي أذكر بعض الأمثلة واربطها بهذه المبررات كما يلي:
1-  إقطاعات الاراضي والمخصصات المالية الضخمة والتي يتم منحها لبعض الأفراد ، غالبا ما تستند نظرياً على المبرر الأول.
2-  مناقصات المشاريع الضخمة والتي ترسوا على شركات أو افراد معينين دون غيرهم ، غالبا ما تستند نظريا على المبرر الأول وأحيانا الثالث أو الخامس.
3-  اخفاء أو شرعنة بعض المخالفات والغش في تنفيذ المشاريع الكبرى والمؤثرة في الدولة لبعض الافراد يستند أحيانا على المبرر الثاني أو الثالث أو الخامس حسب الطبقة التي يقع فيها المواطن.
4-  قضايا الرشاوي والمحسوبيات والواسطات وكثير من انواع الفساد غالبا ما يكون أساسه المبرر الثالث.
5-  السجن التعسفي للمواطنين لمدد غير محددة دون أحكام شرعية ومخالفة الأنظمة ذات العلاقة يكون تبريره مستنداً على المبرر الثاني.
6-  التعيين الإنتقائي والفصل التعسفي غالبا ما يستند على المبرر الخامس.
7-  انتشار الفساد بكافة أنواعه بين أطياف المجتمع في الوقت الذي يقوم فيه أطياف المجتمع بالتبرم من هذا الفساد يمكن القول بأنه يستند في الاساس على المبرر السادس.
وفي الجملة لو أستطردنا في ذكر الأمثلة لطال بنا المقام ولكني أود فقط الإشارة إلى أن غالب أشكال الفساد الممقوتة من المجتمع أو بعض شرائحه تجد أساساً تنظيريا لها يخرجها من دائرة الفساد إلى دوائر أخرى.
لذا فإنني أرى أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والتي تأسست في الربيع العربي ستواجه صعوبات عملية في التعاطي مع قضايا الفساد نظراً لأن مصطلح الفساد في السعودية يتشابه إلى حد كبير مع  مصطلح الإرهاب لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية واسرائيل ؛ فما يكون إرهاباً في دول معينة قد لا يكون إرهاباً في دول أخرى.
وعليه فإنه من البديهي أن تتجه جهود هيئة مكافحة الفساد إلى أنواع الفساد التي تدخل صراحة في تعريف الفساد حسب رؤية أصحاب النفود والسلطة وفي ضوء الهدف من إنشائها دون الأنواع الأخرى التي يرى هؤلاء أنها ليست فساداً من حيث الأصل.
وبمعنى آخر فإنه قد تم السماح للهيئة بإختراق بعض مناطق الفساد ، وتم وضع (الشبوك) على مناطق أخرى تعتبر محميات خارج نطاق وصلاحيات الهيئة.
وهذا الأمر هو ما يؤكده الواقع ؛ فالهيئة مضى على تأسيسها ما يقارب السنة ونحن لم نشاهد فساداً (ذا قيمة) قد تم ضبطه ... وهو ما يؤكد وجود فجوة كبيرة في التوقعات بين حجم الفساد الذي تقوم الهيئة بضبطه وبين  حجم الفساد الذي تنتظر الجماهير ضبطه.
ففي الوقت الذي تفوح فيه رائحة الفساد المركز من كل مكان وتتعالى صيحات المصلحين لمحاربته نجد الهيئة تدور على نفسها  وتبحث عن فتات الفساد المتساقط هنا وهناك دون أن تعمد إلى مصدر هذا الفتات المتساقط.
هذا الكلام يقودنا - أيها الأخوة والأخوات -  إلى تساؤل في غاية الأهمية  وهو... أين المخرج من هذا الأزمة؟
فأقول..
أن الجواب يتلخص في قوله تعالى " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "
والله أعلم

حُرر في 21/03/1433ه
أبو أسامة
طارق محمد الشباني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق