الخميس، 29 مارس 2012

هويدي : السعودية اختارت الانفتاح الثقافي

مفاجآت زيارة للسعودية

غبت عن السعودية نحو عشر سنوات، وعندما عدت إليها في الأسبوع الماضي لاحقتني المفاجآت حينما ذهبت، وأدركت أننا نرى السطح فيها ولا نعرف شيئا عما يجري تحته.
(1)
أولى المفاجآت كانت على الطائرة، حيث أتيح لي أن أطالع الصحف السعودية الصادرة صبيحة يوم 12/3. إذ اكتشفت أنها جميعا تتحدث عن أمور لم نسمع بها جرت في جامعة الملك خالد بمنطقة عسير جنوبي المملكة، إذ نقلت وقائع لقاء استمر ثلاث ساعات لأمير منطقة عسير مع خمسمائة طالب وطالبة لمناقشة المشكلات التي يعانون منها في الجامعة. وفي اللقاء لخص الطلاب مطالبهم في 23 بندا أولها المطالبة بإقالة إدارة الجامعة في مدينة أبها.وتحدث أمير المنطقة الأمير فيصل بن خالد، قائلا إن "ما تطالبون به حق مشروع لكم. فأنتم لم تطلبوا سوى تحسين وتطوير المستوى التعليمي الجامعي"، ومما أسفر عنه الاجتماع أن الأمير رحب بتشكيل لجنة تمثل الطلاب لمتابعة حل المشكلات التي يعانون منها، ولجنة أخرى أكاديمية لإعادة النظر في المناهج، على أن تعقد اللجنتان اجتماعات شهرية لإنجاز مهامها.لم تكن تلك هي المفاجأة الوحيدة، لأنني علمت مما قرأت، ومما سمعت لاحقا، أن طالبات كلية الآداب كن من بدأ الاحتجاج والتمرد، وأن الموضوع الأساسي الذي أثار غضبهن كان تدني مستوى الخدمة والعوائق الإدارية التي يعانين منها. وقد أسهمت شبكة التواصل الاجتماعي في تعبئة الطالبات والطلبة، وفي حث الجميع على التعبير عن غضبهم وإيصال صوتهم إلى الجهات المسؤولة.صحيفة "الوطن" علقت على ما جرى في الجامعة قائلة: إنه منذ انطلاق شرارة مطالب طالبات كلية التربية والآداب سعى مسؤولو جامعة الملك خالد إلى تحوير ذلك التوجه إلى ما أسموه عبثا وتخريبا وإخلالا بالأمن تقف وراءه أياد خفية، وأنه يتعين على الجميع إيقافه، متجاهلين أن للطلاب والطالبات حقوقا لم يعطوها.الموضوع المثار واللغة المستخدمة في عرض الحدث وموقف السلطة إزاءه، ذلك كله كان جديدا بالنسبة لي، إذ كان علي أن اقرأ التفاصيل جيدا لكي أستوعب حقيقة أن ثمة غضبا معلنا تحدثت عنه الصحف حيث الأصل أن يتم كل ذلك في السرِّ. وأن الطالبات صار لهن صوت يرتفع في بلد يعتبر متشددوه أن جنس النساء عورة يجب سترها، وأن أمير عسير شخصيا التقى خمسمائة طالب وطالبة واستمع إلى ملاحظاتهم على مدى ثلاث ساعات، وأنه تم الاتفاق على انتخاب لجنة تمثل الطلاب وأخرى أكاديمية للتعاون في حل المشكلات المشكو منها. وكان السؤال الذي خطر لي حينذاك هو: منذ متى يحدث كل ذلك في المملكة؟
(2)
أحداث طالبات وطلبة جامعة الملك خالد في "أبها" تحولت إلى مادة للتعليق اليومي في كل الصحف السعودية. ولاحظت أن مبادرة الطالبات إلى التمرد والاحتجاج احتلت قسطا ملحوظا من التعليقات حيث فتحت تلك المبادرة الباب لمناقشة أوضاع النساء وحقوقهن في المملكة. في هذا الصدد كتبت الباحثة مرام مكاوي تقول: النساء شقائق الرجال ونصف المجتمع وشريكات الوطن، ولهن حق مثل الرجال تماما في جميع مرافق الدولة وثرواتها وخططها المستقبلية وفي عصر الانفتاح والحرية الرقمية وزمن الإصلاح، فهن لن يقبلن إلا بأن ينلن هذه الحقوق كاملة غير منقوصة (الوطن 14/3).بعد أيام معدودة من أحداث أبها، حدث تمرد آخر في كلية التربية للبنات في محافظة بلقرن، إذ نشرت صحف الخميس 15 مارس/آذار عن وقوع تذمر من جانب الطالبات "حاولن فيه تقليد طالبات جامعة الملك خالد"، فتظاهرن مطالبات بإبعاد العميدة وتحسين الخدمة بالكلية إلى جانب سوء معاملة المشرفات وحسب جريدة الوطن فإن مدير العلاقات العامة بالكلية ذكر أن الطالبات عبثن بطفايات الحريق بالمبنى وبباب المقصف. ومن الواضح أن صداما حدث داخل الكلية لأن تقرير الجريدة تحدث عن إسعاف 13 حالة في مقرها ونقل ستّ طالبات إلى المستشفى لعلاجهن إضافة إلى إصابة أستاذة جامعية، وذكرت تقارير أخرى أن إصابتهن كانت نتيجة للإغماء، وتحدثت صحف أخرى عن أن سيارات الشرطة هرعت إلى موقع الكلية لاحتواء الموقف وفرض الوجود الأمني.في هذه الأجواء استوقفني في صحف الأربعاء 14 مارس/آذار ثلاث ملاحظات لها دلالاتها هي:- تصريح لنائب وزير التعليم العالي الدكتور أحمد السيف أعلن فيه إلغاء تفتيش طالبات الكليات بصفة نهائية والسماح باستخدام الهواتف الجوالة داخل الكليات، وتحذيره من "عقوبات رادعة" لمن يسيء استخدام الجوال، وذكرت صحيفة الوطن التي وضعت الخبر على صدر صفحتها الأولى أن هذه الخطوة اتخذت "على خلفية أحداث جامعة الملك خالد الأخيرة".- إصدار توصية لوكلاء الجامعات السعودية للشؤون الأكاديمية تقضي باشتراك الطلاب في صناعة القرارات التي تخصهم وتستجيب لتطلعاتهم.- تصريح وزير الدولة ورئيس الحرس الوطني الأمير متعب بن عبد الله (ابن الملك) بأن معالجة الأخطاء والمطالبة بالحلول لا تكون بالطرق التي تخل بالأمن والاستقرار، وإشارته إلى أن "هناك جهات خارجية تسعى إلى زعزعة الاستقرار في وطننا". وتحدث الأمير عن "الاضطرابات" التي شهدتها العديد من الدول العربية وأخلت بالاستقرار فيها.أيضا أثار انتباهي في صحيفة الشرق (في 13/3) تعليق أشار فيه الكاتب (عصام الزامل) إلى أن رئيس جامعة "طيبة" فصل طالبا انتقده، فألقى عليه صاحبنا السؤال التالي: ألا تدري يا دكتور أن هناك "تويتر"، ملمحا أن باب النقد بات مفتوحا على مصراعيه لكل أحد على ذلك الموقع. وحينما سألت من لقيتهم من الشباب عن الواقعة فإنهم أكدوها، وأضافوا عن أمثال تلك الحوادث أنها باتت شائعة على شبكة التواصل الاجتماعي، التي تحولت مع موقع تويتر إلى نشرة أخبار لا تدع شاردة ولا واردة إلا وتذكرها.في هذا الصدد ذكروا أن ما جرى في جامعة الملك سعود في الرياض بات معلوما للكافة من خلال موقع تويتر. سألت فقالوا إن طلاب السنة التحضيرية (التي تمتحن خريجي الثانوية العامة وتوزعهم على الكليات المختلفة) اشتبكوا مع العميد منذ شهرين. ورشقه أحدهم بحذائه، مما شجع آخرين على التطاول عليه، الأمر الذي انتهى بإعفائه من منصبه وتعيين مدير جديد بدلا منه.
(3)
ذهبت إلى السعودية مدعوّا إلى معرض الكتاب الذي يقام في مدينة الرياض، ولم أكن أعلم أن ثمة مفاجآت أخرى في المعرض، الذي أريد له أن يكون رمزا للانفتاح وتحريك المياه الراكدة. وهو ما تمثل في فتح الأبواب لعرض الكتب دون قيد أو رقابة. حتى وجدت في المعرض كتبا ليست متاحة في المكتبات. الأمر الثاني الجديد في المملكة أن المعرض ظل مفتوحا طوال الوقت للجميع رجالا ونساء. وكان التقليد المتبع في السابق أن يخصص يوم لهؤلاء ويوم آخر لهؤلاء، بل خصصت جلسة لثقافة الحقوق تحدثت فيها ثلاث جامعيات، اثنتان من السعودية والثالثة من المغرب، ذلك إضافة إلى هامش الحرية الواسع الذي أتيح في أمسيات المعرض.هذه الأجواء أثارت غضب السلفيين، فقاطع المعرض أربعون دار نشر سعودية وثيقة الصلة بهم. وقام خمسة منهم ذات مساء باقتحام قاعة المؤتمرات التي تعقد فيها الأنشطة الثقافية وسعوا إلى إيقاف ندوة جلس فيها الرجال والنساء على طاولة حوار واحدة، إلا أن رجال الأمن والمنظمين تعاملوا معهم بحزم وأخرجوهم من القاعة، وحين حاولوا التجول في المعرض لفحص الكتب فإنه تم اقتيادهم إلى مركز الشرطة، وطلب منهم أن يسجلوا اعتراضاتهم كتابة ثم ينصرفوا في هدوء، إلا أن نفرا منهم "نجحوا" في يوم سابق في منع النساء من حضور ورشة نشر الكتاب الإلكتروني التي عقدت على هامش المعرض، بحجة منع اختلاطهن بالرجال.مما أثار الانتباه أيضا أن ثلاثة من المعتقلين السابقين دعوا إلى الحديث في إحدى الأمسيات، وأن أحدهم (اسمه فؤاد الفرحان) قال صراحة إنه لا يجوز في بلد مهم وكبير مثل المملكة السعودية ألا يكون لديه مجلس نيابي منتخب. وقيل لي إن واحدا من الحاضرين وجه التحية لأحد الناشطين المعتقلين في جلسة علنية، إلا أنه لم يظهر بعد ذلك في القاعة.الانطباع الذي خرجت به مما سمعت وقرأت أن ثمة تجاذبا تشهده البلاد على مختلف الأصعدة بين المتشددين والمعتدلين، الأمر الذي يعد نقلة إلى الأمام، من حيث أنه يعلن تراجعا نسبيا لهيمنة المتشددين المهيمنين، ويعني أيضا أن حضور المعتدلين المنحازين إلى الانفتاح والحريات العامة يتزايد حينا بعد حين. ببطء صحيح ولكنه يعكس تقدما في الاتجاه الصحيح. وهذا التجاذب يلاحظه المرء في حضور بعض الرموز الثقافية في المجال العام، مثل الدكتور سلمان العودة والأستاذ محمد سعيد طيب، في الوقت الذي تدرجهم جهات أخرى ضمن الممنوعين من السفر.فهمي هويدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق